كان الجميع يطلبون مني قص شعر رأسي ،وكأن رأسي كان مهماً للعالم بأسره.
يصبح الشعر شديد السواد بعد قصه، الجميع يطلب ذلك، العالم كله كان يطالب بذلك. و
أخيراً ذهبت إلى حلاق أرمني في شارع ماريبوزا اسمه آرام.
ربما كان فلاحاً من قبل أو حداداً ، أو قد يكون فيلسوفاً لا أعلم.
ما أعرفه أنه يملك دكان حلاقة صغيراً في شارع ( ماريبوزا) ، و يقضي معظم وقته
بمطالعة الصحف الأمريكية ولف السجائر ثم تدخينها ، أثناء مراقبته المارة.
لم أره مرة يقص شعر أحد ما أو يحلق لحيته ، مع أنني أفترض دخول شخص أو شخصين خطأ
إلى دكانه.
ذهبت إلى صالون آرام و أيقظته. كان يجلس خلف طاولة صغيرة وأمامه بعض الصحف و هو
نائم .
قلت له بالأرمنية :
- معي خمسة و عشرين سنتاً هل ستقص لي شعري!
قال:
- إني سعيد لرؤيتك ما اسمك؟ اجلس، سأغلي القهوة أولاً ، لديك شعر رائع جداً.
قلت :
- الجميع يريد مني قصَّهُ ! هل يمكنك قصَّه كلَّه بحيث لن يذكِّروني بقصه مرة ثانية
قبل مرور وقت طويل؟
قال :
- القهوة جاهزة لنحتسي أولاً فنجان قهوة.
قدم لي فنجان قهوة و عبر عن دهشته لأني لم أقم بزيارته من قبل وهو الشخصية ذات
الأهمية الكبرى في المدينة. إنه مميز فعلاً بمشيته الخاصة ، و طريقة حديثه و
حركاته. كان في الخمسين من عمره تقريباً ، بينما لم أكن قد تجاوزت الحادية عشرة. لم
يكن أطول مني حينئذ ، و لم يكن أكبر مني وزناً ، لكن وجهه كان وجه رجل مجرب ، من
يعرف ! إنه عاقل و يحب .
لم يكن فظاً عندما فتح عينيه ، كان بؤبؤاه ينطقان :
- العالم ! أنا أعرف أسرار الكون كل الكون ، الشر و البؤس الكراهية و الرعب ،
القذارة و العفن ، حتى أني أحب كل ذلك .
رفعت كوب القهوة إلى فمي و ارتشفت القهوة السوداء الحارة كانت ألذ مذاقاً من أي
مشروب تذوقته حتى ذلك الحين.
قال بالأمريكية :
- اجلس ، اجلس ، لن نذهب إلى مكان آخر و ليس لدينا مانفعله ولن يطول شعرك خلال ساعة
.
جلس و ضحكت ثم بدأ يخبرني عن العالم.أخبرني عن عمه ميساك الذي ولد في ( موش) .
أنهيت قهوتي و أنهى قهوته ثم نهضت وجلست على كرسي الحلاقة و بدأ يقص شعري .
كانت تسريحة الشعر تلك أسوأ قصة شعر أراها حتى ذلك الحين بل كانت أسوأ من تلك القصة
لشعري في مدرسة الحلاقة و كانت وقتذاك مجانية ، لكنه أخبرني عن عمه ميساك و حكايته
مع نمر السيرك.
قال :
- ولد عمي ميساك في مدينة موش و كان ولداً شقياً جداً جداً، لكنه لم يكن لصاً ، كان
شرساً مع الذين يعتقدون أنهم الأقوى، لأنه كان يستطيع التغلب على ولدين معاً من
أبناء المدينة، و إذا اقتضت الضرورة أيضاً يستطيع التغلب على والديهما أو والدتيهما
أو جديهما أو جدتيهما. لذلك كان يقول له الجميع: " أنت ولد قوي يجب أن تتعلم
المصارعة و تكسب المال الكثير فأصبح ميساك مصارعاً و حطم عظام ثمانية عشر رجلا
قوياً قبل أن يبلغ العشرين و جل ما فعله بالمال الأكل و الشرب و توزيع الباقي على
الأطفال ، لم يكن يحب المال أبداً ، كان ذلك منذ زمن بعيد أما الآن فإن الناس يحبون
المال أكثر من أي شيء آخر.
حذروه بالندم إذا لم يجمع المال من أرباحه و كانوا على حق ، قالوا له : " اهتم
بأموالك لأنه سيأتي يوم لن تكون فيه قوياً و لن تربح بالمصارعة. "
و جاء ذلك اليوم عندما بلغ عمي الأربعين من العمر ضاعت قواه العضلية و جميع أمواله.
فسخروا منه فاضطر إلى مغادرتهم إلى استانبول ثم إلى فيينا.
سألته:
- فيينا؟ هل ذهب عمك حقاً إلى فيينا؟
قال آرام:
- نعم بالطبع ، سافر عمي الفقير إلى أماكن عديدة لكنه لم يجد عملاً في فيينا، و كاد
يموت جوعاً لكنه لم يسرق حتى رغيف خبز، لا لم يسرق شيئاً، بل ذهب إلى برلين ، و
هناك أيضاً شارف عمي ميساك الفقير على الموت جوعاً.
كان الحلاق يقص شعري يميناً و يساراً ، و كان باستطاعتي رؤية الشعر الأسود يتساقط
على الأرض ، وكنت أحس أن رأسي يبرد شيئاً فشيئاً ويصبح أصغر فأصغر.
أكمل الحلاق حديثه:
- آه برلين ! شوارع و شوارع ، منازل و منازل ، ناس و ناس ، ولكن لم يكن لعمي ميساك
فيها باباً واحداً مفتوحاً ، أو غرفة واحدة ، أو طاولة واحدة ، أو صديقاً واحداً .
قلت:
- آه يا إلهي! ما أصعب وحدة المرء في هذا العالم ، هذه الوحدة مأساوية في الحياة!
أكمل الحلاق :
- تكرر الشيء نفسه في باريس و لندن و نيويورك و في كل أمريكا الشمالية ، و في كل
مكان ، شوارع و شوارع ، بيوت و بيوت ، أبواب و أبواب ، في كل مكان. لكن لا شيء منها
لعمي ميساك الفقير.
قلت :
- آه يارب احمه! أيها الرب في السماء احمه!
أكمل ميساك:
- في الصين صادف عمي ميساك مهرج سيرك فرنسي ، تحدثا طويلاً باللغة التركية.
سأله المهرج:
" هل تحب الإنسان و الحيوان؟ "
أجابه عمي :
" نعم أحب الإنسان و الحيوان و الأسماك و الطيور و الصخور و كل شيء مرئي و غير
مرئي."
عندئذ قال المهرج:
" هل يمكنك حب نمر الأدغال المتوحش؟ "
فقال عمي:
"نعم أحب وحوش الغابات المرعبة دون حدود."
لقد كان عمي يائساً جداً.
قلت :
- آه يارب !
تابع الحلاق حديثه:
- كان المهرج سعيداً جداً لسماع كلمات عمي عن حبه لوحوش الغابات الكاسرة و أنه كان
شجاعاً أيضاً.
فقال:
" و هل يدفعك حبك للوحوش كي تضع رأسك بين شدقيه عندما يتثاءب ؟ "
بدأت أصلي: " يا رب احمه يارب احمه! "
قال الحلاق آرام:
- قال عمي :" نعم أستطيع"
فسأله المهرج : " و هل تريد الانضمام إلينا للعمل في السيرك فقد أطبق النمر البارحة
فمه على رأس سيمون بيرغورو المسكين و مات و لم يعد لدينا من يحل محله و يحب النمور
و جميع مخلوقات الله الكثيرة دون حدود."
كان عمي المسكين قد ملَّ العالم فقال للمهرج:
" نعم يا صاحبي سأنضم إليكم في السيرك و سأضع رأسي بين شدقي النمر المتثائب مائة
مرة في اليوم الواحد "
قال المهرج: " هذا ليس ضرورياً، ما نريده مرتين فقط يومياً."
و هكذا فقد انضم عمي إلى السيرك الفرنسي في الصين ،و بدأ يضع رأسه بين شدقي النمر
المتثائب أمام الجماهير المشاهدة برعب وخوف، و سافر السيرك من الصين إلى الهند و من
الهند إلى أفغانستان ، و من أفغانستان إلى إيران.
و في إيران حدثت المأساة. كان النمر قد أصبح صديقاً لعمي ، لكن في طهران! في تلك
المدينة العريقة أصبح النمر متوحشاً، فقد كان الطقس حاراً جداً و أصبح كل شيء بشعاً
، و صار النمر غاضباً يركض حول نفسه طوال اليوم ، و هناك في طهران وضع عمي المسكين
رأسه بين فكي النمر المتثائب في السيرك و بينما كان عمي يخرج رأسه حل فجأة الغضب
الوحشي على العالم كله ، فأطبق فكيه بقسوة و قهر و عنف.
انتهى الحلاق من قصِّ شعر رأسي ، نظرت إلى المرآة، فرأيت شخصاً غريباً .
كنت خائفاً أرتجف ، إذ لم تبق شعرة واحدة على رأسي، دفعت لآرام الحلاق خمسة و عشرين
سنتاًو انطلقت إلى البيت. هناك ضحك الجميع علي ، و أعرب أخي غريغور أنه لم ير أسوأ
من قصة الشعر هذه خلال حياته.
لم أفكر كثيراً بشعر رأسي خلال الأسابيع التالية، كنت أفكر بشيء واحد فقط ، إنه
قِصة قضم نمر السيرك لرأس عم الحلاق المسكين.
وكنت أترقب ذلك اليوم الذي يطول فيه شعري كي أذهب إلى الحلاق آرام لأستمع ثانية إلى
قصة إنسان الأرض الضائع و الوحيد، الإنسان الذي يعيش في خطر دائم .
القصة الحزينة لعم المسكين ميساك ، القصة الحزينة لكل إنسان حي