في يومٍ منَ الأيامِ ، كان يعيشُ في
الشَّمالِ الغربيِّ سيِّدٌ غنيُّ جداً ، و كانَ هذا السِّيدُ ساحراً يعرفُ
مُستقبلَ النَّاسِ.
عندما بلغَ ابنُهُ الرَّابعةَ عشرةَ من العُمرِ، نظرَ السَّيِّدُ في كُتُبِ
المستقبلِ ، و قرأَ مستقبلَ ابنِهِ. وعرِفَ أنَّه سيتزوَّجُ منْ فتاةٍ
فقيرةٍ جداً ، وُلِدَتْ للتَّوِّ في البلدةِ المجاورةِ ، و عرفَ أيضاً ،
أنَّ لوالدِها خمسةُ أولادٍ آخرينَ ، ولِدوا قبلَها. فركِبَ حصانَهُ ، و
توجَّهَ إلى البلدةِ المجاورةِ و فتَّش عن منزلِ الرَّجلِ الفقيرش حتى
وجدَهُ يجلسُ على كُرسيِّ متهالكٍ، أمامَ منْزلِهِ القديمِ ، والدموعَ
تنهمرُ على خدَّيهِ من الحُزنِ .
سأله السَّيِّدُ عن سببِ بُكائِهِ ، فأجابَ:
- لديَّ خمسةُ أولادٍ ، و اليومَ رُزِقْتُ بالولدِ السَّادسِ ، إنَّها بنتٌ
، و وِلادتُها سببُ بكائي ، لأنَّني فقيرٌ ، لا أعرفُ كيفَ أتدبَّرُ ثمن
خبزٍ يسُدُّ أفواهَهُم الجائعةَ!
قال السَّيِّدُ الغَنِيُّ:
- لا عليكَ ، إذا كانتْ هذه مشكلتُك فالحلُّ عندي ، أعطِنِي الطِّفلةَ
الجديدةَ ، و أنا سأهتَمُّ بأمرِها، و لا تفكِّرْ بها أبداً.
شكرَهُ الأبُ الفقيرُ على فضلِهِ و كرمهِ ، و أعطاهُ المولودةَ الصَّغيرةَ
، و ودَّعَهُما ، والابتسامةُ تعلو وجهَهُ ظنَّاً منْهُ أنَّ ابنتَهُ
ستعيشُ في منزلِ هذا السَّيِّدِ الغنيِّ حياةً سعيدةً.
عندما حصلَ السَّيِّدُ الغنيُّ على الطِّفلةِ الصَّغيرةِ ، قادَ حصانَه
نحوَ بلدتِهِ ، و في الطَّريقِ سارَ بمحاذاةِ النَّهرِ ، فألقاها فيهِ و
مضى في سبيلِهِ ، معتقداً أنَّ النهرَ سيبتلِعُهَا ، و سوف تموتُ قبلَ أنْ
تقطعَ مسافةً طويلةً ، لكنَّ ثيابَها القماشيَّةَ التي تلفُّها بإحكامٍ
كانتْ كالزَّورقِ الذي يحميها من الماءِ ، و يمنعها منَ الغوصِ ، بل
قادَهَا تيَّارُ النَّهرِ على سطح مائِهِ، حتى علِقَتْ بأعشابٍ طويلةٍ ، و
نباتاتٍ تنمو على ضفَّةٍ قريبةٍ من بيتِ صيَّادٍ ، كانَ يصيدُ السَّمكَ ،
فسُرَّ بِها سروراً عظيماً، لأنَّه ليسَ لدَيْهِ أولادٌ ، فحملَهَا برِفْقٍ
،و حنانٍ إلى زوجتِهِ ، الَّتِي اهتمَّتْ بِها، وربَّتْها أحسنَ تربيةٍ، و
علَّمَتْها فنونَ الطَّبْخِ ، حتَّى صارَتْ شابَّةً شقراءَ ، ذهبِيَّةَ
الشَّعرِ، فاتنةَ الجمالِ.
في أحدِ الأيَّامِ كان السَّيِّدُ الغنيُّ معَ بعضِ رجالِهِ ، يقومون
برحلةِ صيدٍ على ضفافِ النَّهرِ، و كانَ الطَّقسُ حارَّاً فشعَرُوا بالعطشِ
الشَّديدِ ، ووتوجَّهُوا نحوَ منْزلٍ قربَ النَّهرِ، ليشربُوا الماءَ ، من
يدِ صبيَّةٍ حسناءَ رائعةَ الجمالِ ، في الخامسةِ عشرَ من عُمُرِها.
أُعجِبُوا جميعاً بجمالِها الآخذِ للألبابِ ، فطالبُوا السَّيِّدَ الساحرَ
بالكشفِ عن مستقبَلِها ، ومنْ سيكونُ صاحبُ الحظِّ السَّعيدِ بالزَّواجِ
مِنْها.
قالَ السَّيِّدُ الساحرُ: هذا سهلٌ جداً أيُّها الرجالُ ، تعالَوا قريباً ،
و أنتِ أيَّتُها الفتاةُ الحسناءُ اقتربي ، و أخبريني متى وُلِدْتِ؟
قال الفتاة :
- لا أعرفُ ، لكنَّ صاحبَ هذا البيتِ الذي ربَّاني يقولُ أنَّه انتشلَني من
النَّهرِ قبلَ خمسَ عشرةَ سنةً مَضَتْ.
عرفَ السَّيِّدُ في الحالِ من تكونُ هذه الفتاةُ ، فرحل برجالِهِ ، بعدَ
أنْ أخبرهم قصةً ملفقةً عن مستقبلِها ! ثمَّ عادَ وحيداً، بعد يومين ليقولَ
لها:
- سأصنعُ لك غداً مشرقاً ، أيتها الحسناءُ ، خُذي هذه الرسالة، و أعطِها
لأخي في القلعةِ البحريَّةِ ، و هو سيهتمُّ بك طوالَ حياتِكِ.
أخذتِ الفتاةُ الرسالةَ و قالت للسيد:
- شكراً لك يا سيدي ، سأذهبُ غداً لأخيكَ في القلعةِ البحريةِ.
( و الآن لنقرأ ماذا كتب في الرسالة:
أخي العزيز:
خُذِ الفتاةَ حاملةَ الرسالةِ ، و اقتُلْهَا في الحالِ.
أخوكَ المخلصُ )
في اليومِ التَّالي ،حملَتِ الفتاةُ المسكينةُ رسالةَ موتِها و انطلقت إلى
القلعةِ البحريةِ البعيدةِ، دون أنْ تقرأ ما فيها، و في الطريق نزلَتْ في
أحدِ الفنادقِ الصغيرةِ لتنامَ الليل، ثم لِتُتَابعَ طريقَها صباحاً
إلىالقلعةِ.
عند منتصفِ اللَّيل ، و بينما كانَتْ الفتاةُ نائِمةً ،دخلَ بعضُ اللُّصوصِ
غُرفَتَها لسرقتِها، وبعد تفتيشِ ملابسِها لم يعثُروا على نقودٍ كثيرةٍ ،
فعرفُوا أنَّها فتاةٌ فقيرةٌ ، كان في جيبٍ لها رسالةٌ واحدةٌ شدَّتِ
انتباهَ زعيمِ العِصابةِ، فقرأَها، ثم همسَ : " يا للفتاةِ المسكينةِ!" ثم
أخذَ قلماً وورقةً، و كتبَ رسالةً بديلةً جاء فيها:
( أخي العزيز:
خذْ حاملةَ الرسالةِ ، و زوِّجْهَا من ابني حالاً.
أخوكَ المخلصُ )
ثم وضعَ الرسالةَ الجديدةَ مكانَ الرسالةِ الأولى, وغادرَ مع رجالِهِ، و
الفتاةُ ما تزالُ نائمةً ، لأنَّها كانَتِ متعبةً جداً، بسبب ِمشقَّةِ
السَّيرِ الطَّويلِ على قدميْها.
كان الأخُ فارساً مسؤولاً عن حمايةِ القلعةِ البحريةِ ، و كان ابنُ السيدِ
الغنيِّ يعيشُ في القلعةِ البحريةِ عندَ عمِّه في تلك الفترةِ من الزمنِ.
بعدما أعطَتْهُ الفتاةُ الرِّسالةَ ، أمرَ الخدمَ لإقامة حفلةِ العرسِ
مباشرةَ بعدَ مغيبِ الشَّمسِ ،لأنه أخٌ مطيعٌ ، فأُقيمَ عِرسٌ بهيجٌ ، و
تزوَّجَ الشَّابان ، وأحبَّ أحدُهما الآخرَ حباً جمَّاً.
في اليومِ التَّالي، حضرَ السَّيِّدُ إلى القلعةِ ، ففُوجيءَ بالفتاةِ
الفقيرةِ أمامَهُ ، و قد أصبحَتْ زوجةً حقيقيةً لابنه ، فصمَّمَ على تنفيذِ
فكرةٍ سيِّئَةٍ جداً ، و طلبَ من الفتاةِ المسكينةِ مرافقَتَهُ في نُزهةٍ،
إلى الجبلِ المطِلِّ على البحرِ ، قربَ الهاويةِ السَّحيقةِ.
عندَما وصلا حافَّةَ الجَرفِ الصَّخْرِيِّ نظرَ حوالَيْهِ ، فلمْ يرَ أحداً
، فأمسكَهَا بذراعَيْهَا محاولاً رمْيَها في البحرِ العميقِ ، لكنَّها
تشبَّثَتْ بثيابِهِ، و هي تبكي، و تتوسَّلُ إليه، كي يترُكَها تعيشُ ، و
قالَتْ له:
- أرجوكَ يا سيدي ، لم أفعلْ شيئاً سيئاً في حياتي، اتركْني أعيشُ ، و
أصبحُ خادمةً لك ولابنِكَ؟
تركَهَا السَّيِّدُ ، و لَمْ يُلْقِهَا في البحرِ ، بل طلبَ منْها أنْ لا
تُرِيَهُ وجهَهَا أبداً ، ثمَّ فكَّرَ قليلاً ، وخلعَ خاتَمَهُ
الذَّهَبِيَّ مِنْ بُنْصُرِهِ ، و قذفَهُ في اليَمِّ ، و هو يقولُ:
- لا تُرِنِيْ وجهَكِ إلا إذا استطعتِ الحصولَ على هذا الخاتمِ من البحر .
رحلَتْ الفتاةُ و هي تبكي حظَّها، و مشَتْ ، لا تدري إلى أينَ تذهبُ ، حتى
وصلَتْ إلى حِصْنٍ منيعٍ ، طلبَتْ فيهِ العملَ خادمةً مقابِلَ أنْ
يتركُوْهَا تعيشُ لديهم. فأرسلُوها إلى المطبخِ بعد أنْ اكتشفُوا موهبَتَها
في الطَّبخِ اللَّذيذِ.
في أحدِ الأيَّامِ ، حضرَ السَّيِّدُ و ابنُهُ إلى الحُصنِ تلبيةً لدعوةِ
آمرِ الحصنِ على الغداءِ ، شاهدَتْهُمُ الفتاةُ ، فخافَتْ ، و احتارَتْ
ماذا تفعلُ كيلا يراها السَّيِّدُ ، و يدبِّرُ لها مكيدةً جديدةً يقتلُهَا
فيها. فقرَّرَتِ البقاءَ في المطبخِ ، لأنَّه لنْ يُفكِّرَ بالدُّخولِ
إِليهِ.
كانَ عليها أنْ تُنَظِّفَ السَّمكةَ الكبيرةَ ، و تجعلَ منها وليمةً كبيرةً
شهيَّةً لآمرِ الحِصنِ وضيوفِهِ، و بينما كانَتْ تُنَظِّفُ السَّمكةَ
فُوجِئَتْ بشيءٍ قاسٍ في مَعِدَتِهَا، انتزعَتْهُ ، وكادَتْ أن تصرخَ من
الفرحِ ، لقد كانَ خاتمَ السَّيِّدِ الذَّهَبِيَّ ، الذي ألقاهُ في البحرِ
، و حذَّرَهَا بشيءٍ ظنَّهُ مستحيلاً ، وهو عدمُ رُؤْيَتِها إلا و الخاتمُ
معَها. فصمَّمَتْ أنْ تكونَ السَّمكةُ ألذَّ سَمكةٍ يتناولهُا السَّيِّدُ و
ابنُه الذي كان زوجَها .
عندَما انتهَتْ من طهوِ السَّمكةِ أخذَهَا الخدمُ ، وقدَّمُوها على طبقٍ
كبيرٍ من الفضَّةِ ، تُزيِّنُهُ المقبِّلاتُ اللَّذيذةُ ، تُحيطُ السمكةَ
منْ كلِّ جانبٍ .
أُعجِبَ الضُّيوفُ بالسَّمكةِ اللَّذيذَةِ ، فأَكلُوْا بِنَهَمٍ شديدٍ ،
لأنَّهُمْ لَمْ يَتَذَوَّقُوا سَمكةً أَلَذَّ وَأَطْيَبَ من هذِهِ السمكةِ
، فسألَ السَّيِّدُ آمرَ الحُصنِ:
- منْ طبخَ السَّمكةَ اللذيذةَ؟
أجابَ آمِرُ الحِصْنِ :
- لسْتُ أدري
ثُمَّ طلبَ من الخدمِ إرسالَ الطَّاهيةِ ، التي طَهَتِ السَّمكةَ. فنَزلَ
الخدمُ ، و أخبرُوْا الفتاةَ أنَّ السَّيِّدَ و ضُيُوْفَهُ يريدونَ أنْ
تصعدَ إلَيْهِم في الصَّالةِ العُليا ، حيثُ يتناولُونَ الطَّعامَ .
ارتَدَتِ الفتاةُ أجملَ ملابسِها ، و وضعَتْ الخاتمَ في إصبعِها الوُسطى ،
لأنَّهُ كانَ واسعاً على بُنْصُرِهَا، ثُمَّ صعدَتْ إِلى الصَّالةِ.
فُوجيءَ الضُّيوفُ بالطَّاهيةِ ، فهي صغيرةُ السِّنِّ و جميلةٌ ، و ليسَتِ
امرأةً كبيرةً ، أو عجوزاً كما توقَّعُوا.
أمَّا السَّيِّدُ فقدْ عرِفَها فوراً ، و غَضِبَ غضَبَاً شديداً ، و أرادَ
أنْ يضرِبَها، لكنَّها لَمْ تَخَفْ مِنْهُ هذِهِ المرَّةَ ، بلِ اقترَبَتْ
، و هي تَنْزَعُ ببطءٍ الخاتَمَ منْ إصبَعِها، و تضعَهُ على الطَّاولةِ
أمامَهُ.
فُوجِيءَ السَّيِّدُ بالخاتمِ أمامَهُ ، و قدْ تأَكَّدَ أنَّهُ خاتَمُهُ
بعينِهِ ، و أنَّ القدرَ محتومٌ ، لا يُمْكنُ أنْ يُغيِّرَهُ ، فانتصَبَ
واقفاً ، و خاطبَ الجميعَ :
- صحيحٌ أيُّها السَّادةُ أنَّ المكتوبَ على الجبينِ يجبْ أنْ تراهُ العينُ
" ، و طلبَ منَ الفتاةِ الجلوسَ معَهُم على المائدةِ ، و أخبرَ الجميعَ
قصَّتَهَا ، و أنَّها زوجةُ ولدِهِ الحقيقيةُ.
ثُمَّ أخذَها معَهُم ، و عاشَتْ مع زوجِها الشَّابِّ بسعادةٍ و حبِّ