فتحت عيناي على عالمٍ يشتعل ناراً. كانت تلك أولى ذكرياتي لألسنة لهب تغطي السماء
باللون الأسود. لم أكن استطيع أن أتذكر أي شي قبل ذلك فكانت تلك التفاصيل هي الذكرى
الأولى الراسخةً في ذهني. أيقظت والدتي ألسنة النيران وأخذت الكيس المطرز باللون
الفضي والذي يحتوي داخلة على القرآن الكريم الذي كان معلقاً بقبضة السرير النحاسية
في قمة السرير. فقبّلت هذا المصحف الكريم ووضعته على جبينها ثم علقت الكيس فوق عنقي
وانتزعت أختي الصغيرة من مخدعها الذي كان مجرد أرجوحة شبكية.
من خلال نافذة مفتوحة الستائر كان يمكن رؤية سحابٍ أحمرٍ وكأنه شبح يولد ألسنة
اللهب ويشعل شرارات النار. وكان على السقف والأرض والجدران أنواراً حمراء تطول
وتتقلص. نظرت في المرآة . إنها كذلك مليئة بالسحاب المشتعل.
ثمة شخصٍ ما يطرق الباب بقوة و هناك كانت أصوات وصرخات حادة تشبه زئير الأسد. وبين
الحين والآخر أسمع صرخة طفلٍ أو سيدة تطغي على ذلك الصوت القوي. رأيت شرارات النار
تضرب بقوة أطراف النافذة مثل الحشرات الضخمة- إنه صوت النار- ثم اختفت أطراف
النافذة .. فهي إما أن تكون ذابت أو تهشمت وضربت وجهي موجه من الحرارة الشديدة.
انكسر الباب ودخلت عصابة من الرجال . كانوا يقبضون أي شي في متناول يدهم ميسرة
وميمنة . اعتقدت والدتي بأن هؤلاء الرجال هم السامرين ( أحد أبناء السامرة بفلسطين)
، إنهم طيبون يحاولن مساعدتنا للحفاظ على بضائعنا من النيران.
أخذتني والدتي تحت ذراعٍ وأختي تحت الذراع الآخر إلى أسفل الدرج ووضعتنا خارج الباب
المفتوح على عتبة المنزل . وعادت مسرعةً إلى المنزل .
أحتشد الرجال من الشارع داخل المنزل وعندما خرج الذين كانوا بالداخل بنصيبهم مما
سرقوا، داسوا علينا وفوقنا من كل جانبٍ.
أسرعت والدتي للخارج ومعها ماكينة الخياطة نحن ذراع ونونية الأطفال في يدها. كان كل
الذي استطاعت والدتي البالغة من العمر ثمانية عشر خريفاً إنقاذه من ذلك الحريق هو
ولديها والقرآن الكريم وماكينة الخياطة ونونية الأطفال. كانت ماكينة الخياطة مهرها
الذي اكتسبته من خلال عملها الشاق عليها.
تلك الأشياء التي حدثت أرعبتني كثيراً، كنا في احتفالٍ مسائي، وكانت تبدو المناسبة
كيوم ترفيه في عطلة. وهذا ما ظل لاصقاً في ذاكرتي.
بعد المشهد من الباب الأمامي توالت الأحداث مثل فيلم سريع.
عندما استيقظت صباح اليوم التالي كنا في المقبرة. حتماً لقد أمضينا أمسيتنا هنالك
في الهواء الطلق. كانت المقبرة مليئة بالفقراء وحاجاتهم المنزلية التي تمّ إنقاذها
من الحريق . أناس منزعجون وأطفال يصرخون و مازالت أختي راقدة في الأرجوحة الشبكية
ممدة بين شجرتين من الصنوبر.
بعد ذلك بكثير عرفت بأن المكان الذي احرق فيه منزلنا كان في منطقة كاظم باشا في
مساحةٍ تعرف ب" نيوفاونتين" .
كان العام هو 1919 م ، لم يكن والدي موجوداً . لقد تركنا لفترةٍ طويلة وقد ذهب إلى
أناتوليا حيث كانت حرب التحرير في أناتوليا.
ألا تفهم ؟
هكذا يقول والديّ كثيراً عن أحداثٍ معينة حدثت في فترة طفولتنا وأخيراً وبعد سماعها
لمراتٍ عديدة، يبدو أننا نتذكرها. حيث امتزج الواقع بالخيال.
كانت تلك أولى ذكرياتي عن الحريق. كان لون الحريق هو أول انطباع للعالم الخارجي
التي رسخت في ذهني كطفل. إلا أن ثمة حدثين حدثا قبل ذلك الحدث كانا موضع الحديث
وأنا هنا أذكرهما بكل تفاصيلهما. رغم أنني لا أستطيع تذكر تلك الفترة، لان عمري كان
ثلاثة سنوات ونصف.
كان هناك مقبض نحاسي على بابنا و هناك كان ثمة أحد يطرق الباب. في ذلك اليوم خيطت
أمي ثوباً جديداً . لو كتب لي أن أرى قطعةً من القماش اليوم لعرفتها في الحال. لقد
كانت من الحرير الأحمر الجميل وعليه تصاميم بيضاء جميلة .
وضعت أمي الثوب الجديد ثم نزلت الدرج ذو الحجارة المستطيلة (حجارة ذات صفائح لرصف
الطرق ) بلون الكهرمان (وهو لون أصفر ضارب إلى الحمرة ).
فتحت أمي الباب ليدخل أبي حاملاً سلةً في يده وهناك عند الباب أعطى أمي قبلةً ،
جريت وبكل إثارة أخبرت جارتنا :" أبي قبل أمي ".
ضحكوا وضحكوا ومن طريقة ضحكهم عرفت بأني قلت شيئاً خاطئاً. وارتبكت . لعل مجهودي
المضني طيلة فترة حياتي لكي أنشأ حياة أسرية سليمة وصحيحة قائمة على الحب كان من
نتاج هذه الذاكرة وأنا طفل في الثالثة والنصف من العمر .
أما الحادثة الثانية :
فكانت عندما كنا نأكل في منزل ذهبنا لزيارة أهله. ثم تم إحضار سمكة إلى الطاولة وتم
تقديمها لكل شخص .
علقت قائلاً: " إنها جيدة جداً " .
وافقوني الرأي قائلين:" نعم ، إنها جيدة" .
بعد لحظات قلت :" أوووه ، إنها كانت جيدة جداً" .
وافقوني بقولهم:" نعم ، إنها كانت جيدة جداً " .
بعد لحظات قليلة كررت القول:" إنها جيدة جداً، أحبها كثيراً، كانت السمكة جيدة ".
"نحن سعداء لأنك أحببتها".
أخيراً لم أستطيع أن أحتمل أكثر من ذلك فصرخت قائلاً:" إنكم لا تفهمون شيئاً. كنت
أخبركم بأن السمكة كانت جيدة حتى تمنحوني المزيد منها في طبقي هذا ".
لا أعرف إذا كنت أتذكر تفاصيل هذه القصة أم أنني أستردها من ذاكره مبهمة, فقد حدثت
قبل 47 عاماً