في منطقة سكوبي و على ضفاف نهر فاردار ( Vardar)و حتى السفوح العليا لجبل شار كانت
يرتفع شامخاً قصر الملك فلكاشين(Vulkasheen).
كانت السهول الخضراء المزينة بجميع أنواع الأشجار و الأزهار تضج بالحياة وتعج
بالناس الذين يعملون ليل نهار في حراثة الأراضي و بذارها و حصادها، ورغم ذلك كله لم
يكن أحد منهم يشعر بالسعادة أو الفرح، شيء واحد كان يغمر أكواخهم الحقيرة الواطئة ،
إنه البؤس و التعاسة و الحزن.
قد يكون أحد أسباب تعاستهم هو عدم سيادتهم على الأرض التي يقدمون لها جهدهم و
عرقهم، فينتجون قمح الخبز ، لكنهم لا يجدون الخبز على موائدهم، فالقمح يجمع و يخزن
في مستودعات و مخازن الملك وحدها.
و لعل هذا أحد أسباب الأفراح في ذلك القصر الذي تنبعث منه كل مساء أمواج الموسيقا و
صخب الحاشية المعمورة بكل ما يسعد و يسر.
كانت موائد الطعام اللذيذ و الشهي تقام ليلاً و نهاراً ، يحيط بها سكان القصر
وضيوفهم .
الوحيد الذي لم يكن يشارك قلبه الأفراح و أنس الليالي الملاح هو صاحب القصر نفسه!
كان الملك يشعر بعنفوان شبابه يولي ، و الخوف يبدأ رويداً رويداً بالسيطرة على نفسه
، أما الشعور بالوحدة و زوال الملك فكانا يحتلان كل دقيقة تفكير أو لحظة من ليل أو
نهار يمر بها.
كان الملك فلكاشين يستيقظ متأخراً كل صباح ، و آثار النبيذ ما زالت تثقل رأسه، و
كان يزداد دواره عندما يبدأ بالتفكير العميق بالمستقبل المجهول الذي ينتظره ،
فيتجول في صالات القصر الفارغة ليقع في فخ الشعور بالوحدة القاتلة بعد ليل عامر
بالناس و الضجيج.
نصحه بعض حاشيته بالزواج من إحدى السيدات اللواتي قد يدخلن الدفء إلى القلب و البيت
، و يعتنين به و بحياته فيعود الاطمئنان و الراحة إلى نفسه.
ثم أن مسألة الوريث مهمة جداً، يجب أن يفكر بولي العهد الذي سيرث المملكة وخيراتها
الوافرة ، التي قد تذهب في مهب الريح في حال عدم وجود وريث!
اقتنع الملك فلكاشين بنصائح رجال حاشيته فأرسل في أصقاع مملكته بعض الرجال ليفتشوا
له عن عروس يتزوجها.
انتظر الملك الشاب فلكاشين يوماً ، يومين ، ثلاثة، و لم يرجع أحد من مبعوثيه، فظن
أنهم لم يجدوا الزوجة الممتازة التي تليق به، فانتظر شهراً ثم آخر دون جدوى..
لم يعد أي من الرجال الذين أرسلهم إلى بيوت الفلاحين من رعيته ،لأنهم لم يجدوا
طلبهم.
لقد كانت بيوت الفقراء في مملكته تشكو بؤس الحياة و إهمالها، فصارت كالفخ لهؤلاء
الذين اقترحوا اختيار بنت من سكانها. لقد أطبقت المصيدة على مفخخيها، فلم يجرؤ أي
منهم العودة بفتاة تشرَّبَها الحرمان فكسا وجهها شحوباً و جسدها نحولاً، و ذكاءها
ذلاً.
لم يستطع الملك الانتظار أكثر فقرر النزول من قصره للتفتيش بنفسه عن زوجة المستقبل.
تنكر الملك بثياب فلاح فقير كيلا يعرفه أحد من حاشيته أو رعيته و انطلق في مهمته
الصعبة.
ذهب إلى مدينة نوفي بازار ( Novi Pazar)في يوم التسوق الأسبوعي ، فكانت الشوارع
مزدحمة الناس القاصدين أكشاك التجار الذين فتحوا صناديقهم و عرضوا محتوياتها على
أعواد بأشكال ملفتة للنظر.
كانت بعض قطع ديكور المعروضات ذهبية و فضية تنشر قطع الحرير النفيسة والأقمشة
الزاهية الألوان و الغالية الثمن، و كان التجار الأغنياء يلوحون أيديهم ببعض
بضاعتهم الثمينة و ينادون عليها بكلمات تشجيعية و ترحيبية بالصبايا الحسان و النساء
المتبرجات.
كان الازدحام الشديد حول أكشاك التجار يلفت انتباه الناس عن الملك المتنكر ، فلم
يعرفه أحد و لم يلتفت إليه صديق أو جندي أو امرأة. كانت ثيابه الرثة تساويه مع معظم
المتحلقين للفرجة على ما يمكن للأغنياء فقط أن يمتلكوه.
كادت قدماه تتورمان تحت أقدام المتسابقين و المتسرعين في شق طريقهم في هذا الاتجاه
أو ذاك، لكنه استطاع شق طريق خاص لنفسه بين الحشود نحو تاجر غني أشيب الرأس يعرض
الحرير الملون على فتاة رائعة الجمال يصطحبها فتى طويل القامة يرد على ضحكاتها
العالية بابتسامات و فرح يزيد المكان بهجة و ينسي الضجيج لمن يراقبهما كهذا الملك
الذي يبحث عن طريدة!
كان الشاب قوي البنية ، بهي الطلعة ، جميلاً كزوجته ، يراقب أناملها الناعمة وهي
تتحسس نعومة القماش المزركش الألوان و الحرير الناعم الذي يخلب الألباب قبل
الأنظار.
كان قلبق الشاب يعلو فوق الرؤوس ، ياله من قبعة شدت عليها أنفس أنواع الفراء
الجميل. أما امرأته فكان خصلات شعرها تسبح في الفضاء متموجة على أنغام ضحكاتها
الموسيقية التي تصدح في المكان فتطرب كل الأسماع، و كأنما هي فرقة بلابل و حساسين
اشتركت في سيمفونية طرب أصيل.
شق الملك طريقه نحو الشابين حيث مصدر الطرب حتى وصل قربهما و سمع التاجر الثري يقول
للزوج:
- لماذا تتسوق أيها الفتى كل هذه الكميات من القماش الغالي و الحرير باهظ الثمن.
سيكلفك هذا كثيراً.
أجابه الشاب و هو يلمح عروسه بطرف عينه:
- من أجل عروس رائعة الجمال كزوجتي هذه يمكن أن يقدم المرء روحه ثمناً لما يرضيها.
ثم تناول بعض القطع الذهبية من كيسه و دفعها للتاجر ثمن ما اشتراه منه، وتأبط كيس
المشتريات تحت يسراه بينما أمسك بيد زوجته الفاتنة و رحلا،و ما تزال ضحكاتها
الرنانة تطرب الأسماع.
عندما اقتربا من مكان وقوف الملك تلاقت نظراته بعيني الفتاة التي لمحته بنظرة خاطفة
، فأحس بسهم ناري يخترق قلبه، إنه لحظها القاتل، فأغمض عينيه برهة ليحتفظ بتلك
النظرة الساحرة ، و عندما فتحهما لم يجد للشابين أثراً، لقد اختفيا بلمح البصر، و
كأن حصاناً طائراً حملهما بعيداً عن هذا الازدحام الذي يتعثر فيه المرء في كل خطوة
أكثر من مرة.
فتش الملك عنهما في الجوار ، فتح أذنيه جيداً عساه يسمع الغناء ، لكن صدى لحن قديم
صار يتردد في الأصقاع ، بين الجبال و الوديان، هو كل ما ستطاع استدراكه.
فكر الملك بأمر الفتاة كثيراً حتى شغلته عن أهم الأعمال و المهمات.
قال لنفسه:
" ربما ليسا متزوجين، شاب رأى فتاة فخطفها و اشترطت شراء أغلى النفائس الحريرية كي
ترافقه!........"
عاد الملك إلى قصره حائراً بأمره ، حاول نسيان وقائع اليوم الأول من رحلة التفتيش
عن عروس فلم يستطع ، فأقام حفلات الأنس و الطعام و الشراب في قصره المنيف علَّه
ينسى فتاة السوق و فتاها فلم يستطع.
موضوع: الملك ماركو 1 
الأحد ديسمبر 20, 2009 9:17 pm
