حمل فاردارٌ الطفلَ على صدره الرطب محتضناً سلته ، متجهاً بها نحو البحر الأبيض.
كان النهر عين أبٍ و صدر أم لهذا الرضيع البريء.
أثناء النهار كانت ضفاف النهر التي تظللها الأشجار الباسقة تحمي الطفل من أشعة
الشمس الحارقة ، و ليلاً كان موج النهر الخفيف يهز السلة ليغفو على حكايات فتيان
الأزمنة الغابرة. أما القمر و النجوم فكانوا يخفتون إنارتهم الليلية عليه كيلا
يوقظوه من نومه العميق.
مرت الأيام و الليالي و عاصمة الملك فلكاشين تبتعد شيئاً فشيئاً. وصارت السهول
تقترب و تصطف على جانبي النهر و قد انتشرت فيها قطعان الماشية ، و بينها رعيانها
ينفخون في ناياتهم النحاسية فتردد أجراس الأغنام النغمات من سهل لآخر.
كانت نصال مناجل الحصادين اللامعة تحت أشعة الشمس الحادة ترفع بحفيفها ألحان
أغانيهم الحزينة عالياً في الفضاءات اللامتناهية، تشاركها قبرات هنا و هناك بغنائها
العذب فتطرب قمم الجبال المطلة فالبعيدة.
فوق السلة السابحة بطفلها كانت ملكة الفضاء الصقر تحوم ناشرة جناحيها الواسعين مظلة
مشرعة تظلل الطفل الهائم على سطح ماء النهر الجاري ، فتحميه من سياط أشعة الصيف
الحارقة.
عندما تجاوز النهر فاردار بالصبي أراضي مملكة فلكاشين ، و زال نهائياً الخوف على
حياته ، شرع بمحاولات إيقاظه من سباته الطويل، لكن الطفل لم يفتح عينيه، فغضب النهر
قليلاً ، و أزبدت أمواجه و تطاير رذاذها حتى سقط على وجه الطفل، و علا صوتها حتى
فتح أذنيه بضجيجها، لكنه أيضاً لم يستيقظ!
عندئذ توسل النهر للشمس طالباً مساعدتها لإيقاظ هذا الطفل النؤوم. استجابت الشمس
بسرعة لرجاء النهر، فعمت أشعتها الحارة الأرض كلها، و فجأة ضحكت بحب للنائم الصغير
فسقط من فمها النافخ شعاع ناري على عينيه.
تحرك الطفل قليلاً ، و دفع بيديه الغضتين مزق الثوب المغطى به ، فأحس بالنور المشع
و فتح عينيه للفضاء الأزرق و بكى بكاء شديداً ، سمعت بكاءه الحيوانات في المراعي
الواسعة حول النهر فاجتمعت على الضفتين لمشاهدة صاحب الصراخ الباكي و محاولة إنقاذه
و انتشاله من بين الأمواج الغاضبة التي تتلاعب به وسط السلة العائمة.
استمر بكاء الطفل الحزين فتمزقت نياط قلوب كل من سمعه ،خاصة الراعي الذي كان يراقب
النهر . اقترب الراعي نحو مصدر الصوت ورأى السلة ، فمد عصاه الطويلة و استطاع
الإمساك بطرف السلة بنهاية عصاه المعقوفة و تقريبها من الضفة ثم تناولها بيده .
نظر الراعي الشاب فرأى طفلاً صغيراً في السلة ففرح كثيراً و حمله إلى بيته.
كان والد الراعي يعد عربته للخروج إلى الغابة الجبلية كي يحتطب قليلاً ، فالعجين
رغم عدم كفايته للأسرة الكبيرة ، يجب أن يخبز ، هناك أفواه جائعة لا تستطيع
الانتظار طويلاً.
عندما رأى الفلاح الطفل في السلة التي يحملها ابنه الراعي غضب منه غضباً شديداً،
لأنه عاجز عن إطعام اثني عشر فماً مفتوحاً في بيته ، فكيف يأتي ابنه بفم ثالث عشر!
- هيا أعد الطفل إلى المكان الذي وجدته فيه! ألا ترى فأل السوء يأتي معه؟
سمعت الزوجة صراخه فخرجت ، و عندما رأت الطفل رق قلبها عليه ، فوضعته على صدرها
بحنان الأم الملهوفة ، و سرعان ما سكت الطفل وهو يهمهم راضعاً.
ساد المكان هدوء عجيب ، بعد صراخ الطفل و الفلاح.
- لا تبك يا صغيري، لا، لا، لن أدعهم يتركونك في البراري لتأكلك الوحوش الضارية!
التفتت نحو زوجها المشدوه و هتفت :
- بماذا تثرثر يا سيدي ، و كأن روحاً شريرة لوثت عقلك! اعلم أن النهر لا يحمل إلا
الخير و الفأل الحسن! حتى لو كان لدينا عشرون ولداً فلن أترك هذا الخير القادم به
النهر، و لتعرف أن أحداً لا يموت إلا في ساعته!
كان الفلاح المسكين طيب القلب جداً ، فشعر بالخجل من غضبه و كلماته المتسرعة، اقترب
من الطفل و مسح على جبينه و رأسه بحنان ثم عاد لربط الثورين بالعربة إذ أحس أنه
تأخر كثيراً بالانطلاق لجمع الحطب.
زادت جهود الفلاح لوجود الطفل الجديد، و كان مع زوجته فقيرين جداً ، و عليهما تأمين
الغذاء و الكساء ، بالإضافة لترميم الكوخ علَّه يصمد أمام الشتاء القادم.
كانت قد مرت بهما أيام أشد قسوة و عتياً من قبل، عندما كانا شابين يعملان في أراضي
الغرباء من أجل بعض القمح ، المصدر الوحيد لغذاء يبقيهما و أولادهما على قيد
الحياة. مع ذلك ربيا الطفل و أطعماه جيداً حتى صار فتى يستطيع العمل في الحقل،
عندئذ قال له الأب:
- كنت أصغر منك سناً عندما أرسلني والدي إلى العمل. لذلك عليك أن تجمع الماشية من
القرية، خذ معك عصا و اهتم برعيها كي تعمل مقابل الخبز الذي تأكله.
قبَّـل ماركو يد الفلاح الخشنة و المتشققة من كثرة العمل ، و أخذ معه الناي
النحاسية و محفظة الطعام و فيها كسرة خبز و انطلق بعد أن أعطاه الفلاح عصا معقوفة
طويلة..إنها عصا الراعي.
جمع ماركو حيوانات القرية و سرح بها في المراعي المحاذية للنهر. جلس في ظل شجرة
كبيرة يراقب الأغنام و الأبقار و هو يعزف على الناي أجمل الألحان.
هدأ هدير النهر و توقفت الرياح عن هبوبها و حطت الطيور على الأغصان لسماع الأغنية
الحزينة التي تصدح أنغامها عن الناي. حتى حيوانات الغابة تجمعت و أتت. أطل أيل أشهب
برأسه من الغابة. ترك الدب قطعة خبز كان يأكل منها ، و التفت نحو العازف الحزين.
الصقر التي كانت تحوم فوقه عندما كان رضيعاً في السلة على سطح الماء كي تظلله صارت
تطير على ارتفاع منخفض كي تسمع الناي الحزين. استمر ماركو بالعزف على الناي دون
انقطاع منذ الصباح حتى الظهر ناسياً الأكل و الشرب. صار الخبز قاسياً كالصخر أما
الماء فقد بخرته الشمس و نسي ماركو كل شيء حتى العجول التي يرعاها.
رفع الناي عن فمه و نظر حوله ، فوجيء أن العجول قد صارت بعيدة جداً عنه في السهل ،
صفر ليجمعها لكنها لم تسمعه صفيره ، فجمع بعض الحجارة في قبعته و بدأ يضرب بها
الحيوانات الشاردة ، فكان كل حيوان تصيبه حجر يموت في مكانه ، أما الباقي فهربوا
بعيداً أكثر.
قذف ماركو عصاه نحو الخراف فحملتها الريح عبر الوادي فأصابت نصفهم وهرب النصف الآخر
و هكذا مات بلمستها كل حيوان أصابته العصا. ركض ماركو ليلحق بالقطيع ، و كان كلما
أمسك رجل خروف كسرت بين أصابعه فلم يستطع حراكاً.
عندما لاحظ أنه لم يبق من القطيع عجل واحد سليم خاف و عاد إلى القرية و قص لهم ما
جرى معه.
سامحه الناس الطيبون لكنهم لم يصدقوا كلمة واحدة مما قال .
أمام البيت كان أبوه بالتبني ينتظر ، لم يصدقه أيضاً ، و نادى زوجته:
- اخرجي يا امرأة و اسمعي كلام هذا الولد و اعرفي أي شر فعل اليوم، ألم أقل لك أن
نترك تربيته و أننا لن نرى منه خيراً ، أنت لم تسمعي كلامي ، مات قطيع القرية كله.
ماذا سنفعل الآن مع الجيران؟!
أطلت المرأة من باب الكوخ و نظرت بحنان نحو الولد الحزين، كانت ملابسه ممزقة و يعلو
جسمه التراب و الغبار ، وقف مطأطىء الرأس ينتظر المحاكمة . مسحت المرأة الطيبة
دموعها و قالت بألم لزوجها :
- لا تصرخ بوجهه ، قد لا يكون مذنباً، لا شك أن الأرواح الشريرة هي من فعل ما جرى.
ألم يأخذ الطوفان ذات يوم جميع أغنامنا!
لكن الغضب كان يسيطر على نفس و أعصاب الفلاح فلم يتحمل أكثر فصرخ بزوجته :
- لا تحاولي إقناعي ثانية فجميع نصائحك أودت بي إلى الهلاك. وجميع تلك الحيوانات
الميتة في النهر أو السهل صارت هدية مجانية و سهلة للوحوش .
و صار قراره بطرد الولد من البيت موضع التنفيذ .
- اخرج من بيتي أيها الولد الشرير اذهب حيثما تقودك قدماك ، لقد ربيتك و رعيتك حتى
أصبحت في سن الزواج ، لكنك ما تزال بلا عقل هيا اغرب عن وجهي. لقد انتشلك ولدي من
نهر فاردار ، فهو أبوك و ضفافه الرملية مهدك و أمك الحنون.
ثم أغلق الفلاح باب كوخه في وجه ماركو و دخل تاركاً إياه في الشارع
غطى ماركو وجهه بيديه و هو يبكي و يجر قدميه باتجاه فاردار .
أليس النهر والده و والدته و أين يجد الولد الراحة والأمان إن لم يكن في حضن
والديه.
موضوع: الملك ماركو 4 
الأحد ديسمبر 20, 2009 9:19 pm
