ناداها صوت وهي تخرج من الترام فالتفتت ايرا. كان شاب احمر الوجه من البرد يبتسم
لها رافعا ياقة معطفه وفي يده شنطة صغيرة فقالت باسمة:
- فاديم؟
الوقت مساء وكان يتهيأ له أن الثلج الهاطل يريد ان يغمر الشارع بدكاكينه وسكة
الترام، وان يتراكم على المارة فيحيلهم طابات ثلجية متحركة، بل أن يهوي بالشرفات
البارزة من واجهات المباني.
قالت مشيرة الى يده:
- لقد جمدت يدك من الصقيع.
رفع الشنطة والقى نظرة على يده الزرقاء شبه المتخشبة وقال:
- كلا.
- ولماذا انت بدون قفازات؟
قال بمرح:
- لا احب لبس القفازات شتاء. اليدان تتصلبان من البرد وذلك ضروري للملاكمين.
وطوى قبضته وفردها مرات عدة كأنه يريد إيهام ايرا بأن كلامه عن صلابة اليد ليس
هراء.
كانا تلميذين في مدرسة واحدة بل وفي الصف العاشر نفسه. ذات مرة اقترب فاديم منها في
الفرصة وسألها:
- أين تحتفلين برأس السنة؟
- كيف تسألني أين؟ في المنزل طبعا.
- ألا تأتين معي؟
- الى أين؟ سألته غير مدركة مقصده.
- الى عند فيتكا. الحفلة ستكون في منزله. حفلة حلوة. هل تأتين؟
- ومن هو فيتكا هذا؟
- شاب من حلقة الملاكمة.
كانت تعلم ان فاديم يمارس الملاكمة، وقد حاز، كما يقولون في الصف، الحزام البني
لفئة الوزن المتوسط. لم تذهب ايرا الى حفلة رأس السنة إنما ظلت بقرب والدتها في
المنزل. بعد ذلك صار فاديم يحوم حولها في كل فرصة، بل ورافقها مرةً بعد الدروس
مدعيا بأن عليه ان يعرّج على مخزن يقع في المبنى حيث تقيم ايرا. واستمر الثلج يهطل.
سارا متمهلين وهما يلامسان أحدهما كتفَي الآخر، لكن ندر أن كانت نظراتهما تتقابل.
قالت كأنها تسأله وهي تتطلع اليه:
- جيد ان يكون المرء قويا.
لم ينظر اليها هذه المرة بل قلص عينيه بغرابة ورفع كتفيه.
- بالطبع، المرء القوي لديه الثقة بنفسه.
- اجل، بالضبط.
سألها:
- هل نتزلج غدا على الجليد؟
- موافقة.
- وافترقا.
ساعة الحائط تطرق برتابة، وضوء مصباح الانارة المعلق عند النافذة ينسكب على الوجه
ويضيء العينين.
قالت الام العليلة متقلبةً على الفراش:
قريبا تتخرجين. وراحت ايرا تسبح في الماضي البعيد. رغم انها كانت صغيرة آنذاك، لم
تنس اليوم الذي حزم فيه والدها شنطته بصمت بينما كانت جالسة هي وامها على الاريكة
وقد احاطت والدتها كتفيها بذراعيها وراحت تضمها اليها بشكل مؤلم. سألت ايرا والدها:
الى اين؟ لم يجب، انما اقترب منها وشاء تقبيلها فامتنعت وكررت السؤال: الى اين يا
ابتاه؟ اجاب: سأعود قريبا يا بنيتي. وحمل الشنطة وخرج من الغرفة فركضت وراءه وهي
تسأل: الى اين يا ابتاه؟ وحاولت ان تمسك بتلابيبه لكنه خطا بسرعة وسرعان ما انصفق
الباب خلفه فغصّ حلق ايرا من الغيظ تجاه والدها الذي لم يقل لها شيئا.
ومنذئذ عاشا وحدهما.
في الصباح طلبت والدة ايرا قدحاً من الماء وحين ناولتها اياه لاحظت ان يدي والدتها
ترتجفان. سألتها:
- أتشعرين بالبرداء؟
- نعم، جسمي يرتجف يا بنيتي.
- هل أغلي لك شايا؟
- لا اعلم.
وفجأةً الام في المشفى.
حينما اتت في الغد الى المشفى لاقاها الطبيب ميخائيل ميخايلوفيتش كأنه كان في
انتظارها. قال وهو ينظر اليها: والدتك حالها أحسن، أحسن بكثير.
واضاف على الفور:
- مرحى يا شاطرة.
على سرير وثير ناعم، أمضت ليلتها تلك لدى العمة فاليا المقيمة على مقربة. استلقت
ولم تغف إنما وسنت. وفي الصباح فكرت حين صحت ان كل ما جرى في الامس كان محض حلم
فحسب. تمنت لو تشاهد امها على الفور لكن والدتها الآن كانت قد فارقت الوجود. لم
تذكر الدفن. فقد انحفر الناس في ذاكرتها، ومحيّا والدتها الذي تغيّرت ملامحه وقد
غمرته الورود، والنسيم البارد الممتزج برذاذ الماء. وقتها هطل المطر طوال النهار،
وعندما في المساء، رقدت في فراش الجارة الوثير، كان المطر يطرق الزجاج بقوة.
سارت ايرا ممسكة بقوة بمحفظة كتبها المهترئة. لا ضجيج الترام ولا لغو المارة كانا
قادرين على اخراجها من دوامة التفكير: ماذا تفعل بعد الآن؟ في ذاك النهار عادت الى
المنزل في وقت متأخر فوجدت على طاولة المطبخ مغلفا ازرق عليه اسمها واسم ابيها
وكنيتها بخطّ مستوٍ: الى ايرا فلاديميروفنا. لم ينادها احد هكذا من قبل. فضّت
المغلف. ابنتي. "لقد علمت بوفاة الوالدة". واضاف في نهاية الرسالة: "لست مذنبا في
افتراقنا، انا ووالدتك، ستفهمين كل شيء". والدك.
لم ترد ايرا على الرسالة.
ارادت ايرا ان تعمل للانفاق على نفسها لكن تلامذة صفها رفضوا وجمعوا لها المال.
وظهر مغلف في يد كوسكا الذي اقترب من مقعد ايرا وقال لها:
- خذيه. ولا تقولي شيئا.
وفي الغالب كي يلهيها نهائيا قال:
- نعلم بأنك تبرعت بدمك في المشفى.
جالت ببصرها في الصف الهادىء الى درجة كانت تسمع خرخرة الماء في انابيب التدفئة
المركزية، وارادت ان تقول شكرا لكنها لم تقو على قهر الغصة الحادة التي ملأت حلقها.
مساء حزيراني هبط على المدينة فبدأ حفل التخرج وكانت ايرا في فستان ابيض ناصع اما
فاديم فراح ينظر من عند الجدار الى ايرا لكنه لم يكن يجرؤ على دعوتها الى الرقص
موضوع: بدأ الحفل ولم يجرؤ على دعوتها الى الرقص 
الأحد ديسمبر 20, 2009 9:22 pm
