بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على منبعثه الله رحمة للعالمين ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أمابعد:
فإن البشر تعتريهم صفات النقص ويجري عليهم من الغفلة والزلل والوقوع فيالمعاصي وليس لهم الكمال والعصمة فهم عرضة للخطأ والنسيان والسهووالهفوة.
دلَّ على ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسولالله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوميذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرةرضي الله عنه: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهماالنظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرِّجلزناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه».
فهذه النصوصالصريحة من السنة تدل دلالة واضحة على أن الإنسان معرض للوقوع في المعصية لأنه عبدضعيف تغلبه الأمارة بالسوء وهواه وشيطانه، ولكن المسلم الفطن العاقل اللبيب يتداركذلك بالتوبة والاستغفار والإقلاع المباشر قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْفَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْلِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]
قال ابن كثير: "أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوهبالتوبة والاستغفار"
فكان الجزاء:
{أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌمِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاوَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «كلابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
فالله جل وعلا يتوب على التائبينالصادقين، وأنه لا أحد يحول بينك وبين التوبة وبينك وبين الله عز وجل فهو سبحانهيقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَالدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلىالله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يدهبالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».
وأن الله جل وعلا يفرحبتوبة عبده حين يتوب إليه مع غناه وكماله سبحانه وتعالى.
قال ابن القيم رحمهالله: "وهذه فرحة إحسان وبر ولطف لا فرحة محتاج إلى توبة عبده منتفع بها؛ فهوسبحانه لا يتكثر من قلَّة ولا يعتز به من ذلة ولا ينتصر به من غلبة ولا يعده لنائبةولا يستعين به في أمر".
ويصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الفرحةبمثال فيقول: «الله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلتهبأرض فلاة فانفلت عنه وعليها طعامه وشرابه فاضطجع في ظلها قد أيِِس من راحلتهفبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح».
وتأمل كيف كانت فرحته بهذه الراحلةالتي عليها طعامه وشرابه وهو في هذه الأرض الخالية التي لا يوجد عليها سبب من أسبابالحياة وإلا هذه الراحلة وعلى هذه الراحلة الطعام والشراب فذهب الجمل بما حمل،وتأمل فرحته حينما أخذ بخطامها لم يقل رآها بعيدة أو سمع صوتا بل قال قائمة عندهوهذا يجعله يدهش ويتمسك بها بكل ما أوتي من قوة.
دل ذلك خطأه حينما قال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" ومع هذه الفرحة الشديدة بهذه الراحلة وعودة الحياة إليهمن جديد، فالله أشد فرحاً منه بعودته إليه تائباً نادماً مخبتاً من عودة دابة عليه،فعودة الراحلة إليه من أسباب الحياة المؤقتة في الدنيا الزائلة، ولكن عودة العبدإلى ربه ومولاه تائباً مؤمناً منكسر القلب من أسباب الحياة الحقيقية وهي حياة قلبهبنور الإيمان المبشر بالحياة السرمدية الأبدية في جناته جنات النعيم.
فهو سبحانهأرحم من أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا.
وهذا موضع الحكاية المشهورة أنه كانأحدهم يسير في إحدى السكك، فرأى باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفهتطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلميجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته فرجع مكسور القلبحزيناً فوجد الباب مرتجاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه فلما رأتهعلى تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: "يا ولديأين تذهب عني ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي علىخلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟" ثم أخذتهودخلت.
فتأمل قول الأم: "لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه منالرحمة والشفقة"
وتأمل قول صلى الله عليه وسلم: «الله أرحم بعباده من هذهبولدها»
وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟
فمن هذا شأنهورحمته التي وسعت كل شيء لا ينبغي اليأس والقنوط من رحمته وعفوه.
كذلك أنهسبحانه يتفضل على عبده التائب العائد إليه ويكرمه بأن يجعل تلك السيئات حسنات إذاأتبع التوبة بعمل صالح.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِإِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّابِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُالْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَوَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْحَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 68-70] وتأمل قوله سبحانهوتعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} تبين لك فضلالله العظيم وسعة عطائه وكثرة جوده.
قال أهل العلم: التبديل هنانوعان:
الأول: تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيمان وبالزناعفة وإحصاناً وبالكذب صدقاً وبالخيانة أمانة وهكذا.
الثاني: تبديل السيئات التيعملوها بحسنات يوم القيامة.
وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في هذا الحديث: جاءشيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدعم على عصا حتى قام بين يدي النبي صلىالله عليه وسلم فقال: "أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلكلم يترك حاجة ولا داجة -أي: لا صغيرة ولا كبيرة- إلا أتاها" وفي رواية "إلا اقتطفهابيمينه" لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأبقتهم -أي: أهلكتهم- فهل له من توبة"،فتخيل بعد هذا العمر الطويل والكم الهائل من المعاصي يسأل ويقول: هل لي من توبة؟،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهل أسلمت؟»
قال: "أما أنا فأشهد أن لاإله إلا الله وأنك رسول الله"
قال: «تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لكخيرات كلهن».
قال: "وغدراتي وفجراتي؟"
قال: «نعم
قال: "الله أكبر"، فمازال يكبر حتى توارى. [قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار، وقال المنذري فيالترغيب: إسناده جيد قوي].
وآيات الفرقان الآنفة الذكر تدل له وتشهدله.
وهكذا ينبغي للتائب الصادق في توبته ترك السيئات وفعل الخيرات حتى يبدلالله سيئاته حسنات.
وإليك أخي هذا النداء من ملك الملوك عز وجل:
{قُلْيَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنرَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]
أي: قل لعبادي يا محمد الذين أكثروا منالمعاصي لا يقنطوا من رحمتي وعفوي فأنا أغفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، وإني أناالغفور الرحيم.
وتأمل أخي رقة العبارة ولطف العتاب بقوله: {يَاعِبَادِيَ} تندرج تحتها الآمال والرجاء والمبشرات وحسن الظن بالله، ففيها أمل ورحمةورأفة وإحسان وجود وكرم وعطاء من ملك الملوك الذي لا يتعاظمه شيء فمهما بلغت الذنوبفعفو الله أعظم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله عند موته:
ولما قسىقلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجاء مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظم
وفي الحديث القدسي: «يا ابن آدم إنك ما دعوتنيورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماءثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثملقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة».
قال تعالى: {وَلَيْسَتِالتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُالْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18]
فهذه توبته غير مقبولة لأنهاليست في زمن التوبة المقبولة.
وقد قالعليه الصلاة والسلام: «إن الله عز وجليقبل توبة العبد ما لم يغرغر» والغرغرة: هي بلوغ الروح الحلقوم.
وقوله عليهالصلاة والسلام: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه».
فبادرأخي قبل أن تبادر فما هي إلا أيام أو ساعات أو لحظات وإذا بك في عداد الأموات فأصبحالغيب لديك علانية، فعد قبل أن تقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاًفِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100]
فيقال لك: {كَلا}
أو تقول: {يَاحَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]
أو تقول: {يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]
تدري أي حياة هذه؟ إنها الحياةالأخروية الأبدية التي ليس فيها موت، ففي صحيح الإمام مسلم: عن عبدالله بن عمر أنرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النارإلى النار أتى بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد "يا أهلالجنة لا موت، يا أهل النار لا موت"، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهلالنار حزناً إلى حزنهم».
فهؤلاء في الجنة مكرمون: {وَهُمْ فِي مَااشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102]
وهؤلاء في النار والعذابالمهين: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْعَذَابِهَا} [فاطر: 36]
قدم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبسالألسن
بادر بها غلق النفوس فإنها *** ذخر وغنم للمنيب المحسن
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.